الإقتصاد الدولي.. في ورطة!!

يعاني الإقتصاد الدولي حالة من التخبط الواضح تضع حركة الاستثمارات وتدفقات السيولة في مختلف الأسواق في مأزق وتجعلنا –جميعاً- في إنتظار حدوث أزمة إقتصادية أكبر من تلك التي حدثت عام 2008.

ولست هنا بصدد البحث في الأسباب التي أدت إلي هذه النتيجة الطبيعية، لكن ما يعنيني هنا، هو هل ستظل الأُسس التي يُدار من خلالها الإقتصاد الدولي تسير على نفس النسق؟.

وعلى الرغم من جهود الساسة وخبراء الإقتصاد في سبيل إيجاد أساس فلسفي لتحقيق الإستدامة على مستوى الإقتصاد الدولي إلا أنها أنتجت تجارب تفتقر إلى حالة التكامل المنشودة.

ويمثل المعيار القانوني حجر الزاوية للتبادل التجاري على المستوى الدولي أو لتأسيس كيانات تستهدف تنظيم حركة التجارة الدولية – حتى ولو تم تأسيسها استناداُ إلى معايير أخرى ظاهرياً، غير أنه لم ينجح في فرض معايير واضحة يمكن الرجوع إليها في حالات النزاعات التجارية الدولية المستعرة حالياً.

كما أغفل المعيار القانوني فكرة تكافؤ الفرص في ممارسة النشاط الاقتصادي على المستوى الدولي، فجعل منظومة الإقتصاد الدولي تتأرجح ما بين قوى مسيطرة وأخرى تابعة.

وطالما أننا نتحدث عن معاهدات دولية وقوانين مصممة لتحقيق توازنات تضع دولاً في المقدمة وأخرى في الذيل فنحن بصدد حالات قانونية تضع فكرة العدالة في ممارسة النشاط الإقتصادي على المستوى الدولي موضع شك. وأسهم هذا المعيار أيضاً في تعميق الهوة بين الدول المتقدمة والنامية حيث حدد للدول النامية نصيبها من الديون قبل أن تشرع في الاستفادة من ميزات الإتفاقات التجارية.

وأفرزت اتفاقية “بريتون وودز”عام 1944 شكلاً غريباً من الإقتصاد الدولي الذي ينتعش بإنتعاش الدولار وينهار إذا ما تعرض لأي هزة، حتى الدول التي حاولت أن تنوع من سلة عملاتها فشلت في تحقيق الكثير من أهدافها نظراً لأن كل إتفاقات التجارة الدولية تستخدم الدولار كمرجع عند تحديد قيمة هذه الإتفاقات.

وتأتي قضية إستقلالية عمل البنوك المركزية لتكشف عن وجود فجوة في المعايير القانونية المتعلقة بإنشاء البنوك المركزية على مستوى العالم.

ويقف المعيار القانوني مشدوهاً أمام رؤيتين رئيسيتين تحبذ تبعيتها للتشكيل الحكومي مع منحها قدر من الإستقلالية للدفع باستقرار الأسواق المالية والأخرى تقول بالإستقلالية التامة في العمل بعيداً عن التدخل الحكومي.

وتسبب هذا الصراع حول التأويل القانوني لطبيعة عمل البنوك المركزية إلى رفع معدلات الفائدة على الدولار أربع مرات خلال عام 2018 وكانت نتائجه كفيلة بإظهار الدولار مقوماً بقيم أعلى من قيمته الحقيقية، فاصطدم آداء الاحتياطي الفيدرالي بالرغبة الحكومية في خفض قيمة الدولار في محاولة من إدارة ترمب لجذب مزيد من الاستثمارات وتجنب حدوث أزمة إقتصادية أمريكية يعقبها أزمة عالمية.

ولم ينجح هذا المعيار أيضاً في إيجاد صيغة يمكن على أساسها دمج العملات الرقمية ضمن منظومة عمل البنوك المركزية التقليدية أوإمكانية تفعيل الرقابة على مراكز تعهيد الخدمات المالية الخارجية “الأوف شور” التي تزداد حركة التحويلات المالية إليها في أوقات الأزمات.

في حين ذهبت بعض هذه التجارب إلي إعتماد المعيار الجغرافي كأساس للوصول لحالة التكامل. وأدى ذلك إلى إنتاج تجربتين شهيرتين: الأولى، تجربة “السوق الأوروبية المشتركة” المسماة بـ”الإتحاد الأوروبي” التي بدأت في خمسينيات القرن الماضي ونشهد نهايتها حالياً بخروج بريطانيا من هذا التنظيم “البريكست”، والثانية، تجربة “النمور الأسيوية” في منطقة جنوب شرق أسيا التي ذاع صيتها في التسعينيات من القرن الماضي وانتهت بصدمة إقتصادية ضربت هذه المنطقة ولم تنجُ منها سوى إندونيسيا برفضها لتعويم عملتها.

وحرم هذا المعيار الدول الناشئة من تحقيق معدلات نمو قوية يمكن معها الوصول إلى حالة الإستقرار الإقتصادي على المدى الطويل، فجعل تجربتها مرهونة بمستوى مرتفع من تدفق الاستثمارات على المستوى الدولي وهو أمر لم يكن مضموناً خاصة في ظل التحذيرات بإمكانية تكرار أزمة 2008 سواء في شكل توابع تتجمع روافدها لتخلق أزمة جديدة، أو في شكل أزمة جديدة ولكن من نوع آخر.

بالفعل، تشكلت فقاعة الأزمة المقبلة لكن عنصراً جديداُ تدخل ليزيد من خطورتها ألا هو المعيار التكنولوجي الذي كانت الآمال معقودة عليه لتجنب حدوث أزمة جديدة أو على الأقل للتخفيف من حدتها.

وبدا ذلك واضحاً منذ نشر البحث الخاص للعملات الرقمية لناشر -مجهول الهوية- يدعى ساتوشي الذي نادى بإمكانية تحقيق حالة النمو المستدام على مستوى الإقتصاد الدولي من خلال تكنولوجيا “سلسلة الكتل”.

وشهدنا معدلات غير مسبوقة في التداول على عملة “بيتكوين”. ورأينا حالة التخوف التي إعترت البنوك المركزية من الإعتراف بالعملات الرقمية كوسيط للتداول لدواعي أمنية في المقام الأول فأصبح لدينا نوعين من الإقتصاد الدولي أحدهما التقليدي الذى يُدار من خلال البنوك المركزية وأخر موازٍ له ليست له قواعد توضح الشكل الذي يتم على أساسه تداول هذه العملات أو العناصر التي تؤدي إلى رفع قيمتها.

وجاءت قيمة الغرامة المالية التي تم فرضها على شركة “فيسبوك” عقب إعلانها عن إبتكار العملة الرقمية الجديدة “ليبرا” وبلغت 5 مليارات دولار -وهي الغرامة الأضخم في تاريخ شركات التكنولوجيا العالمية- لتكشف عن وجود أزمة ثقة في تعامل الإقتصادات بشكلها التقليدي مع أدوات التكنولوجيا.

وأخيرا تأتي الصين لتكشف عن رغبتها في إطلاق عملتها الرقمية الجديدة في ظل حرب تجارية طاحنة مع الولايات المتحدة لتزيد حدة التوتر على صعيد الإقتصاد الدولي وهو ما سيطرح- في المستقبل القريب- المزيد من التساؤلات بشأن دور التكنولوجيا كأساس للتكامل الإقتصادي على المستوى الدولي.

Leave a Reply

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.