جلال حموده
هدأت النبرة المتعالية للحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، بتوقيع إتفاق جزئي تسمح فيه الصين بتخفيف بعض القيود على الصادرات الزراعية الأمريكية، وستقوم الولايات المتحدة بموجبه بخفض بعض التعرفات الجمركية التي تم فرضها مؤخراً. وبينما تتأرجح التكهنات بشأن هذا الإتفاق بأنه قد يمهد المجال أمام إتفاق على نطاق أوسع، يمكن إعتباره في هذه الحالة وفقاً للمصطلحات العسكرية بأنه أشبه بـ”وقفة تعبوية”.
ويتزامن ذلك مع تهديدات الإدارة الأمريكية بفرض عقوبات الإقتصاد التركي نتيجة إجتياحها لشمال سوريا والحرب مع الأكراد، والإضطرابات الأمنية في منطقة الخليج في أعقاب الهجوم على منشئات “أرامكو” النفطية، وكانت آخر تلك الأحداث تفجير ناقلة النفط الإيرانية في البحر الأحمر.. وغيرها من التطورات التي ينظر إليها المراقبون والمحللون الماليون بعين الحذر، ولتكشف الحالة الراهنة للسوق العالمي عن أن موجة الركود الحالية أصبحت تشكل “مصدراً كبيراَ للخطر”، لكن السؤال المطروح هنا هل سيكون لتلك الحالة دورها في خلق إستراتيجيات أعمال جديدة تعمل على تحسين خلق حالة التوازن المرجوه على مستوى الإقتصادات الناشئة في ظل هذا الركود؟.
وبما لا يدع مجالاً للشك، فإن توقعات “صندوق النقد الدولي” التي تشير إلى تراجع النمو الإقتصادي العالمي إلى %3.3 عام 2019، والتي لا تختلف كثيراً عن توقعات “البنك الدولي” بتراجع هذا المعدل إلى مستوى أقل مما كان متوقعا إلى 2.6% في 2019، قبل أن يتحسن قليلا إلى 2.7% في 2020، تعني أن الإقتصادات الناشئة- وخاصة الدول منخفضة الدخول- هي الفئة الأكثر تضرراَ بوقوفها في مرمى نيران هذه “الحرب المستعرة”.
ويشير الواقع العملي إلى أنه على الرغم من توافر التقنيات الرقمية التي يمكنها أن تسهم في تقليل فجوات التجارة بين الدول المتقدمة والنامية من خلال المساهمة في ضبط حالة الأسواق المالية، إلا أن ما يتم إتخاذه من إجراءات تتسم بالطابع الشعبوي – ومن ثم الحمائية- تكشف عن أن الفجوة تتسع بشكل مثير للقلق بما قد يؤثر على إستقرار الدول المتقدمة قبل النامية، كما هو الحال في قصة تخارج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي المعروفة بـ” بريكست” وتوجه الحكومة البريطانية إلى عقد إتفاق مع “منظمة التجارة العالمية” تحسباُ لمواجهة أزمة نتيجة لهذا الخروج.
وتتسبب تلك الحالة في إنحسار التمويل والسيولة على المستوى الدولي -والتي ضربت عن منظمة دولية مثل “الأمم المتحدة” مؤخراَ؛ مما سيعمل على تقليص أنشطتها بشكل كبير- ويؤهل دول هذه الإقتصادات للدخول في مستويات أكثر ارتفاعاَ من الديون السيادية، ففي الربع الأول من العام الجاري، زادت ديون الحكومات والشركات والمؤسسات المالية والأسر في الاقتصادات الناشئة إلى 69.1 تريليون دولار؛ وهو ما يضع حكومات هذه الدول أمام خيارين – كلاهما مر- إما بخفض مستويات الإنفاق حتى يصل إلى معدلات سالبة أو أن يتحول هذا الإنفاق إلى مصدر جديد لتمويل المشروعات المتوسطة والصغيرة.
وتزداد صعوبة هذه التحديات في ظل عدم وجود ضمانات لنجاح هذه المشروعات نتيجة عدم وجود صيغ واضحة لخطط الأعمال في مراحل الركود. وقد تعطي نتائج هذه المشروعات إنطباعاَ ظاهرياَ بإستمرار عمليات التشغيل لكن معدلات هدر السيولة سيزيد في ظل مثل هذا التوجه.
وتركز “أجندة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة 2030″ في محورها التاسع على الجانب المتعلق بالصناعة، والابتكار، والهياكل الأساسية من حيث التنبيه على الحكومات بالتركيز على ضخ الاستثمارات في الصناعة، والبنية التحتية، والطاقة المتجددة، وتكنولوجيات المعلومات والاتصالات. ووضعت هذه الأجندة البحث العلمي كركيزة أساسية لتحقيق العناصر الواردة في المحور التاسع؛ بما يؤهل لتحقيق الهدف السابع عشر وهو عقد الشراكات والتعاون على المستوى الدولي لتساعد البلدان النامية على زيادة صادراتها، وفقاَ لنظام تجاري عالمي قائم على قواعد ومنصفة.
وتكمن المعادلة الصعبة فيما يتعلق بالبحث العلمي في وقت الركود أنه لن يتعلق فقط بخلق نمط إستراتيجي لمجالات الأعمال يسهم في تحقيق الطفرة التي سيتوكأ عليها الإقتصاد العالمي في مسيرته خلال الأعوام العشرة المقبلة، لكن فيما يتعلق أيضا بـ”خطط استمرارية العمل” Business continuity planning التي ستكون الشغل الشاغل للمؤسسات للتأكد من استمرارية إتاحة وظائف الأعمال الهامة للعملاء والموردين، والمنظمين، والكيانات الأخرى التي بحاجة للوصول إلى هذه الوظائف تحت أي ظروف.
وقد تتأرجح خطط استمرارية العمل ما بين إدارة أنشطة العمل اليومية وصولاَ إلى إدارة الأزمات في فترات زمنية قصيرة للغاية، وبالتالي سيكون من الصعب تحديد الفرص العملية المتاحة والممكنة للمؤسسات، وقياس قدرتها على تحمل المخاطر، والتوظيف الأمثل لمواردها، بما يسهم في تطوير القيمة المضافة لمنتجاتها وخدماتها.
وعلى الرغم من دور “مؤشرات الإبتكار العالمية” في وصف مدى تطور إقتصادات البلدان الناشئة، لكنها قد لا تسهم بشكل كبير في تحديد المسار الذي ينبغي لها أن تتبناه إذا ما أرادت تلك الدول أن تحتفظ بهذه الحالة لفترات زمنية أطول، وهو ما يجعل هذه المؤشرات رهناَ لظروف السوق التي لا تكاد تستقر على حال. كما أن وصف حالة بأنها مبتكرة كثيراَ ما تخضع لوجهات نظر شخصية حتى وإن وجدت المعايير التي تعزز هذا الزعم.
كما يستلزم الوضع الحالي للإقتصاد العالمي تصميم برامج تدريبية تترك المجال للعاملين في التخصصات المختلفة فرصة خلق برنامجهم التدريبي المناسب وتطبيقه على أرض الواقع دون تدخل إشرافي مباشر سوى في حالة قياس النتائج فقط مع التوجيه إلى نقاط الضعف لتعزيزها؛ وهو ما سيجعل الموظف قادراً على خلق أكثر من خطة عمل بعضها ستكون رئيسية وأخرى بديلة.
وستسهم مثل هذه البرامج في تعزيز المهارات القيادية لدي الشاغلين للوظائف التخصصية، وتحديث قاعدة المهارات إلى حد كبير. غير أن مناخ العمل في هذه الحالة سيجعل شاغلي هذه المستويات أشبه بمن يبذل عشرة أضعاف الجهد اللازم للسير خطوة واحدة، لكن مثل هذه الخطوة ستمهد الطريق أمام وضع أساساَ أكثر إستقراراَ فيما بعد.
وأعود لأؤكد ما ذهبت إليه في مطلع العام في مقالي “ثورة الفكر: السياسة العامة للتنمية المستدامة” من أنه سيكون لدراسة الموضوعات المتعلقة بحرية الممارسة السياسية بالغ الأثر فى مجال السياسة العامة؛ من حيث أنه سيعمل على تطوير برامج سياسية ذات بٌعد إقتصادي أكثر واقعية بما يسهم في تطوير نظم الأعمال، ورأب الصدع على صعيد العلاقات الدولية، وتقليل التوترات الاجتماعية داخل الدول، ووضع الخطط التنموية على المسار الصحيح، وأنه مع الوصول إلى صيغة المزيج التكامل الذي يجمع بين الإبداع والخبرة والتخطيط، تصبح عملية خلق إستراتيجية شاملة لمواجهة الركود أشبه ببلوغ قمة جبل “ايفريست”.
#الحرب_التجارية #الأزمة_السورية #إيران #بريكست #منظمة_التجارة_العالمية #صندق_النقد_الدولي #البنك_الدولي #أجندة_الأمم_المتحدة2030