الرحيل عن أوروبا

بول ميسون

ترجمه إلى العربية: جلال حموده

بول ميسون

شاهد أيضا https://www.linkedin.com/posts/galal-homouda-38b35a26_%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%AD%D9%8A%D9%84-%D8%B9%D9%86-%D8%A3%D9%88%D8%B1%D9%88%D8%A8%D8%A7-activity-6625398056160493568-4kqv

منذ عام 2016، كان هناك سؤال مُلِح: ما هي آخر مدينة أوروبية سأزورها.. بصفتي مواطن أوروبي؟

الآن.. أعرف الإجابة: لقد عدت للتوِّ من «بون»؛ مدينة بيتهوفن.. ودويتشه بوست.. وإدارات عديدة من مؤسسات الخدمة المدنية الألمانية.

إنها مكان هادئ الآن، بعد أن عادت الحكومة الألمانية إلى برلين.

وجود الجامعة واضح في كل مكان؛ فالموظفون والطلاب يشكلون نحو 15 في المائة من السكان. يعرض أكبر مسرح تجاري في بون حالياً.. مهزلة «فيدايو: حشرة في أذنها»؛ وهي عمل أوبرالي.. يقوم على فهم مختلف لرائعة «فيديليو» – من أعمال بيتهوفن الإبداعية – وهناك أيضا.. معالجة سينمائية لمحنة السجناء السياسيين الأتراك، تظهر رائعة جيسيكا هاوسر «ليتل جو».

هناك في بون.. وجدت الطعام الجيد، والشراب الممتاز، وأجريت محادثات باللغة الإنجليزية، وكانت مثالية بالنسبة لي.. ألق عظيم. وهذا ما نتخلى عنه نحن البريطانيون؛ القدرة على القيام برحلة لمدة ساعة واحدة، والتجارة – بعد الحد الأدنى من الإجراءات – مع الاقتصاد الأكثر استقراراً ونجاحاً.. في نصف الكرة الشمالي، ويضم أكثر 500 مليون شخص على هذا الكوكب.

ولأن أقلية من الناخبين الإنجليز، الذين لم يسمعوا أبداً عن «فيدايو» ولن يروا «فيديليو» أبداً.. يريدون الخروج من أوروبا، في المرة القادمة التي أزور فيها الاتحاد الأوروبي، ستكون عبر قناة تحمل لاقتة.. «جنسيات أخرى». بالنظر إلى الطبيعة الساحقة لانتصار المحافظين في الانتخابات البريطانية الأخيرة.. في ديسمبر الماضي، يمكنني أن أجزم بنفس القدر.. أنه لن تكون هناك عودة بريطانية إلى مؤسسات أوروبا في حياتي.

إجابة غير مريحة:

ما أراد أساتذة السياسة والمثقفون من مؤسسة «فريدريش إيبرت شتيفتونج» أن يعرفوه مني.. هو: لماذا خسر حزب العمل بشدة؟

الجواب غير المريح.. هو أننا كنا نحاول الدفاع عن هذا الشيء.. الذي أنت جزء منه؛ عضوية بلدنا في مؤسسة متعددة الأطراف.. مستقرة، والمُثل التي تكمن وراء ثقافة أوروبية عبر الحدود.. وإرث التنوير، أمر قائم على قواعد من العقلانية واحترام الخبرة.

كنت أتساءل أيضاً: ما الذي سأشعر به حيال الرحيل عن الاتحاد الأوروبي؟

لم أكن أبداً من المعجبين بمؤسساتها: فالمساحة المميتة.. بين السيادة الوطنية والسيادة فوق الوطنية، أصبحت ساحة لمصالح الشركات.

لقد تركتني العقلية البيروقراطية – التي واجهتها كصحفي يعمل في بروكسل – أثناء أزمة منطقة اليورو، من المفوضية الأوروبية إلى تخفيض مستوى توقعاتي، ففي اعتقادي.. أنني أفضّل التعامل مع دولة ذات سيادة.. تحت سيطرة أكثر ديمقراطية.

في أسوأ حالاته – وخلال الأزمة.. وقسوة المعالجة القسرية التي تلت ذلك – بدا الاتحاد الأوروبي.. وكأنه يمكن أن يدمر المثل العليا الأوروبية. لكن المملكة المتحدة الآن.. ستغادر الاتحاد الأوروبي في 31 يناير.. المسار واضح جداً.

لدينا ائتلاف يحكم – حسب الأمر الواقع – بين اليمين واليمين المتطرف، بأغلبية برلمانية مدتها خمس سنوات، ووسائط إعلام تخريبية لن تحاسبها. سوف تتعرض سيادة القانون للضغوط. وبالنظر إلى التفويض الضخم للقومية الأسكتلندية؛ فمن المحتمل أن تتفتت المملكة المتحدة. ولن تتوقف لعبة اللوم.

«خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي» وحده.. لن يكون حدثا سعيدا لأولئك الذين سعدوا بالتصويت لصالح حزب المحافظين يوم 12 ديسمبر. ومن ثم، سوف يحتاجون إلى المزيد من العنصرية.. المزيد من كره الأجانب.. المزيد من إلقاء اللوم على بروكسل؛ لأنها ترفض الالتزام بمطالب زعيم حزب المحافظين.. رئيس الوزراء بوريس جونسون.

لكن مع البدء في مفاوضات ترتيبات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي للتوّ بعد 31 يناير الجاري، فقد تصل أزمة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى ذروتها.. في نهاية عام 2020؛ فقد حان الوقت لأخذ كافة الحسابات بعين الاعتبار، والتخلي عن العواطف والسياسة التي فرضت نفسها.. في السنوات التي أعقبت الاستفتاء المصيري، الذي نظمه ديفيد كاميرون – سلف جونسون – عام 2016.

مشاعري الغامرة هي الأسف.. ليس على التغيير المؤسسي، ولكن على الفرصة المهدرة؛ بكل ما يمثله إنهاء عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي الآن.

غياب استراتيجية شاملة:

بالنسبة للأشخاص الذين ينظرون إلى هذه الأحداث – على مدى 50 عاماً – ستكون المشكلة واضحة؛ في أي مرحلة من المشروع الأوروبي – بعد انضمام المملكة المتحدة في عام 1973 – لم يطور أي طرف فيه «استراتيجية كبرى» جادة.. للاتحاد الأوروبي؟ فقد كان هناك نموذج اقتصادي؛ الكينزية الأولى.. ثم السوق الجماعي. وكان هناك اندفاع طائش لاستيعاب أكبر عدد ممكن من دول أوروبا الشرقية. ثم كانت هناك منطقة اليورو.. فأي نظام نقدي يتعين الاحتفاظ به، بالنظر إلى هشاشة سياسات المالية العامة؟

لم تتخيل النخب الوطنية.. ولا البيروقراطية العابرة للحدود الوطنية، استراتيجية شاملة.. تستحق صفة «الكبرى»؛ بمعنى أن أستاذ معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا باري بوسن يعرّفها بـ«نظرية الدولة القومية: حول كيفية إنتاج الأمن لنفسها»، فبدلاً من ذلك.. أسست النخبة الأوروبية منطقة عملة نقدية موحدة.. وسوقا موحدة.. وبعض المؤسسات العابرة للحدود؛ لم يثبت أي منها قوة على البقاء.. في مواجهة الأزمة الاقتصادية العالمية.

ولأنهم لم يكونوا مستعدين أبداً.. لإنشاء اقتصاد أوروبي واحد، ناهيك عن نظام حكم حقيقي.. منيت النخب الأوروبية بخسارة اقتصادية قيمتها 2.6 تريليون دولار في عام واحد.. من أول أزمة هيكلية كبرى تواجهها. وفي هذه العملية انطلق رصاص مدفع غير منضبط.. أضر ببنية النظام المالي والاقتصادي العالمي.

في ظرف من هذا النوع، استقر رأي نخبة بريطانية جديدة.. حول تمويل المضاربة والتجارة عبر الأطلسي. وفي المستقبل.. سيتجه نظر الجيل القادم من الشباب المتميزين.. إلى واشنطن وسنغافورة، بأكثر اهتمامهم بمدن أوروبية.. مثل مدريد وباريس وبرلين.

«بريطانيا العالمية»:

في سلسلة جديدة من الأعمدة.. للنشر في موقع «سوشيال يوروب»، سأستكشف الآثار المترتبة على هذه الحقيقة الجديدة، أو ما أطلق عليه المحافظون «بريطانيا العالمية»؛ كيف ستؤثر أولوياتها الجديدة على أوروبا؟ وعلى القوة الجيو-ستراتيجية الأكبر بين روسيا، والصين، والولايات المتحدة الأمريكية.

والآن.. سأجيب عن التساؤل الذي طرحته في فقرة سابقة: ما هو شعوري؟

المشاعر مهمة، وعندما تتفاعل على نطاق واسع.. يمكنها أن تغير قارات.

الإحساس المباشر بالخسارة.. لا يتعلق بالسوق الموحدة.. أو حرية الحركة، بل بإمكانية اتخاذ إجراءات متسقة.. ضد «التغير المناخي».

كان اقتراح حزب العمال الجديد «الصفقة الخضراء الجديدة» جذرياً.. بالفعل، وأولئك الذين ناضلوا من أجله.. كانوا يعلمون أننا كنا نفعل ذلك ضد التحيز الإنتاجي.. لكثير من النقابات الداعمة للعمال.

وعلى النقيض من ذلك، فإن توجه خطط المفوضية الأوروبية – الذي نُشر في ديسمبر 2019 – ضعيف. يرى في السوق والقطاع الخاص.. وسيلة لتحقيق تخفيض صاف في انبعاثات الكربون.. بحلول عام 2050. ونتيجة لذلك؛ ليس لديه إجابات على ما نفعله.. عندما يفشل السوق والقطاع الخاص.

يتعين على المرء – فقط – الذهاب إلى ألمانيا، ليرى مدى تقدم الديمقراطية الاجتماعية البريطانية.. في قضية المناخ، مقارنة بحزب مثل «الحزب الديمقراطي الاشتراكي»؛ الذي لا يزال متمسكاً باستخدام الفحم في الصناعة.. وبإنتاج السيارات.

لكن الشعور الاستراتيجي بالخسارة.. هو شعور ثقافي. وفي الوقت الحالي، تشعر الطبقة الليبرالية الاجتماعية في كل بلد أوروبي.. بالتهديد. وفي هذا السياق، من المفترض أن نعتذر عن المشاركة في ثقافة التنوير.. التي وُلدت في الجامعات والمعاهد الموسيقية، في مدن مثل بون.. والدفاع عنها. لقد أوضح فشل حزب العمل في انتخابات 12 ديسمبر الماضي، تكلفة الفشل في التواصل مع الناخبين المتزايدين؛ من القوميين وكارهي الأجانب.

الثقافة العابرة للحدود:

لكن.. إذا كان الدرس الذي نستخلصه (في بريطانيا)، هو الانفصال عن الثقافة الأوروبية.. عبر الوطنية، فسيكون ذلك قاتلاً.

بالكاد.. كانت هذه الثقافة العابرة للحدود موجودة في السبعينات، عندما قمت بأول رحلة لي خارج المملكة المتحدة (إلى أليكانتي!). كان تسهيلها – من خلال جوازات السفر الأوروبية.. وبرنامج «إيراسموس» لتمويل التعليم والتدريب الأوروبي.. ودوري أبطال أوروبا.. ورحلات الطيران الرخيصة.. وموسيقى رقص إلكترونية وإباحية.. وأزياء إبداعية.. و – نعم أيضا – مسابقة الأغنية الأوروبية، هي على الأرجح الحدث الثقافي الأكبر.. والأقل فهماً في حياتي.

ليست هناك كلمة كافية لذلك.

ولكن الحقيقة، أن الأطفال الذين يبلغون من العمر 12 عاماً في بون.. ولغتهم الإنجليزية الممتازة.. والصحفيين الشباب الذين قابلتهم في فيرارا – في مهرجانها الصحفي السنوي – والبوهيميين في فيلنيوس ودبلن.. يقرأون نفس الكتب، ويشاهدون نفس النوع من الأفلام، ويأكلون نفس الانصهار من الغذاء الأوروبي والآسيوي، ويرتدون نفس اللباس بشكل متزايد.. بنفس الطريقة.

وعلى الرغم من أن الأوضاع الحالية في أوروبا.. استغرقت أكثر من 400 عام، لتتبلور؛ من خلال الاستعمار.. والقومية.. والفاشية.. والستالينية.. والحربين العالميتين، فإن هذا هو الإرث الثقافي النهائي للتنوير، لم يضع ابن بون الأكثر شهرة – (يقصد المؤلف الموسيقي المبدع لودفيج فان بيتهوفين) – كلمات مقولته الشهيرة Alle Menschen werden Brüder – التي تعني «كل الناس إخوة» – في السياق الموسيقي لسيمفونيته التاسعة عبثا.

لكن قيم التنوير تتعرض الآن للتهديد في كل مكان؛ من اليمين المتطرف الأمريكي.. الذي يرى أن عدوَّيه الكبيرين، هما: الإعلام المحترف.. والأبحاث التي راجعها النظراء. والمسيحية الإنجيلية، والدين الشعبي الجماهيري للقدرية؛ الذي يعلّم الشباب – الذين يتوقون إلى فرصة – أن «استعراض المواهب.. أو الفوز باليانصيب.. أو الانضمام إلى مشاهير إنستاجرام».. هو طريق النجاح والثروة والسعادة. وبالطبع.. اليسار المناهض للإنسانية؛ الذي استسلم طوعا.. تحت راية ما بعد الحداثة.

لذلك، ففي الشهر الذي تنتهي فيه جنسيتي الأوروبية، لن يكون قلقي راجعا إلى فقدان جواز السفر، وإنما القيم.. التي كان من المفترض أن يمثلها جواز السفر. فقد يتحول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.. إلى لحظة واحدة فقط، في عملية تتواصل.. لتفكيك النظام المتعدد الأطراف. وإذا كان الأمر كذلك، فيمكننا البقاء على قيد الحياة؛ طالما بقينا ندافع عن العلم.. والعقلانية.. وعدالة الحفاظ على مناخ كوكب الأرض.. وسيادة القانون.

ومع ذلك، فإنني معني بإعادة ترتيب الأولويات.. التي يهتم بها اليسار بعمق. وهذا – للأسف – قد يكون أصعب مما كنا نتوقع.

كاتب بريطاني بارز ومذيع ومؤلف كتاب «ما بعد الرأسماليةدليل لمستقبلنا».

المقال منشور بتزامن في مجلتي Social Europe و IPS-Journal.

Leave a Reply

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.