القاهرة- ٧ يوليو المجلة الرقمية للإعلام العربي: تظل ممارسات الأعمال في منطقة انعكاس للثقافة السائدة بها، حتى وإن تم الترويج في مجتمعاتنا لمسميات جديدة مستوردة من ثقافات غربية، يتشدق بها الكثيرون ويرددونها كالببغاوات. ونحن أبناء منطقة الشرق الأوسط الذي يموج بأزمات سياسية واقتصادية متلاحقة ما زلنا نعاني أثار استعماراً عسكرياً تم بموجبه تقسيم دول وظهور حركات مسلحة أسهمت في تدمير عدد من شعوب المنطقة واستنزاف قدرات البعض الآخر مما زاد التحديات الماثلة أمام تنفيذ مشروعات تنموية طويلة الأمد، وأصبحت فكرة التقدم مرهونة بالمتغيرات التي تأتي في معظمها سلبية لتفرض في بعض الحالات مسار العودة إلى المربع الأول

الآن، وفي ظل جائحة كوفيد 19 التي جاءت فيها الرياح بما لا تشتهي السفِنٌ.. وما يشهده العالم من مسارات مختلفة تزخر بمزيد من القيود على حركة الأفراد والسلع، توسعت هذه القيود لتصبح فكرية أيضاَ. فالفكر هو أساس الانتاج وهو الذي يحدد ثروة الدولة وقيمتها على المستوى الدولي ومدى تأثيرها في منظومة علاقات تتسم في كثير من الأحيان بالتطرف بين الايجابية والسلبية، أما المناطق الرمادية فهي مجرد ظلال أو مقدمات لسيناريوهات سوداء
ويبرز تساؤل حول مدى عبثية المطالبة بثقافة أعمال شفافة، وعلاقات عمل واضحة ليست قائمة على استغلال الآخر، وفرص كفيلة بتحقيق تقدم مهني وبالتالي اجتماعي بما يجعل حياة الفرد أكثر رفاهية، ويجعله ركيزة أساسية في تقدم دولته. ينظر كثيرون إلى من يطرح مثل هذا التساؤل نظرة السخرية باعتباره واهماً ويحلم بحياة أفلاطونية ليست موجودة في الواقع
إن المؤمنين بإمكانية تحقق مثل هذا المطلب وخاصة في منطقتنا العربية لا يتجاوزون إصبع اليد الواحدة.. وتتفاوت امكاناتهم في سبيل تحقيق مبتغاهم. لكن، على أية حال، وباعتبارنا أيضاً أبناء منطقة شهدت نزول ثلاثة ديانات سماوية وتزخر برؤى المفكرين، والمٌجددين، علينا ألا نفقد الأمل، فربما يأتي ذلك المٌبشِر الذي يمكنه تقديم ثقافة أعمال جديدة تحرر طاقات الفرد، وتعترف بقدرة العامل الماهر على التأثير في محيطه، وصون مجتمعه، والتفاعل بشكل إيجابي مع قضايا وطنه، وأمته، لا على سبيل المنفعة المادية الوقتية وانما على سبيل مبدأ راسخ يمكننا أن نعتنقه جميعاً، ويكون محفزاً للجهود التنموية على المستوى الفردي والجماعي
وسأتناول ملامح هذا المشروع الاقليمي في سلسلة من المقالات نظرا لتشعب الموضوعات التي سأقوم بطرحها
البعد الثقافي- سأناقش هذه القضية عبر عرض صور ذهنية لنماذج ثقافية منتشرة في عالمنا العربي، وأتعرض لها في هذا السياق من زاوية ساخرة، واستثنيت من هذه النماذج “ذوي الاحتياجات الخاصة” وقد تعرضت لإحدى مشكلاتهم من خلال الرابط التالي
نمط المستعبد ذو القبعة الغربية: “الكاوبويز”وهم دعاة ثقافة “المالتي ناشيونال” التي جاءت لتزعم أنها تستحث العقول العربية على الابداع فتوفر لهم الامكانات المادية لكن الفائدة تؤول أخيراً إلى المستهلك الغربي الذي لا يهمه كثيراً جنسية من ابتكر وأنتج، ولكن “الهوية التجارية” للشركة التي قدمت له الخدمة. وهنا يرتبط الجانب الثقافي بالشكل أكثر منه بالمضمون. قد يكون للشكل عاملاً مؤقتاً في خلق نمط ثقافي قوي لكن بغياب المضمون يصبح الأمر مجرد موضة، مجموعة من الشعارات تتردد على مسامعنا، عن حرية مزعومة
نمط المٌستعبَد الذي يعتمر قبعة غربية على جلباب: تبني المهاجرون العرب إلى الخارج نموذجاً ثقافياً يرون فيه خلاصاً من جمود الفكر على الصعيد المحلي. وقد يلجأ بعض أصحاب هذا النمط من التفكير إلى انكار العادات العربية تمام الانكار، وأخرون يحاولون ايجاد توازن بين السلطة الأبوية الشرقية وقدر من الحرية الغربية، ومثل هذا الفصام الثقافي نموذج يصعب على الكثيرين تفهم أبعاده، كما أنه سيضمحل بمرور الوقت، لأن الأجيال الجديدة أصبح من الصعب عليها فهم وتقبل العادات وطريقة التفكير العربية بحكم اندماجهم في مجتمعاتهم، وكذلك انطباعاتهم التي يأخذونها من المهاجرين الجدد عن نمط حياة المجتمعات العربية

المستعبد صاحب الجلباب: وهو النموذج الرئيسي الذي تزخر به ثقافتنا المحلية ويصطدم فيها العامل بالسلطة الأبوية لرئيس العمل، والذي لا يفرز سوى النمط الاتكالي لكائن مستعبد نظير أجر قل أو كثر. مثل هذا النمط من البشر لديه سلسلة من مشكلات معقدة، فهو دائما ما يشعر بأنه مهدر الحقوق، أو أنه لا يحصل على التقدير الاجتماعي الكافي، يلقي اللوم على زملائه، فهو المضحي بلا شك. تجده دائما ما يقدم نموذجاً لجدية مصطنعة، حتى لو اضطره ذلك إلى أن يسكب الماء من هذا الدلو إلى ذاك ذهاباً وإياباً. قيمة العمل بالنسبة له تتلخص في الأجر الذي سيحصل عليه بالمنصب العالي. ويستمر في تأدية عمله على أمل أن تتحسن ظروفه يوما ماً. وكثيراً ما نجده يتبخر في أقرب فرصة مثل “السبرتو” عندما يجد اللحظة المناسبة لوظيفة أفضل براتب مغري، أو يظل يدور في نفس الدائرة المغلقة.. والسلام ختام
المٌستَعبَد الذي يرتدي سترة فوق الجلباب: وهو نموذج للشخص الذي ينحدر من أقلية عرقية، مشكوك في أمره دائماً خاصة اذا استخدم لهجته المحلية حتى يراه البعض “جاسوساً”، أو “مٌندساً”، أو “كائن من كوكب آخر”. قد يكون مشهوراً في محيط عمله لكنها ليست تلك الشهرة التي يرغبها. وهذه الفئة تحديداً يصعب فهم الجوانب السيكولوجية التي يرغبون في أن يتعامل الآخرون معهم على أساسها
هذه هي النماذج السائدة في مجتمعاتنا العربية، تلك التي تربينا عليها ورأيناها، وأصبح من الصعب خلق صور ذهنية أخرى، حتى إن حاولنا دمج أكثر من نموذج مع بعضه. السر في ذلك بسيط، أن النموذج المختلف للعامل الماهر الذي يمكنه الجمع بين هذه النماذج مجتمعة، فتكون وظيفته هي حياته، ومبتكر، وتلقائي، يستطيع أن يطور من أدواته، ويمزج بين الفردية، والجماعية في آدائه، صاحب الرؤية، الذي يمكنه اتخاذ قرار مناسب في توقيت مناسب، وكذلك التواجد في مستويات قيادية مختلفة. لن تتمكن سوى شريحة معينة ذات تأهيل نفسي وثقافي معين من تحقيقها
واذا تمكنت مجتمعاتنا العربية من خلق هذه الشريحة من المتعلمين، والحفاظ عليها بما يتناسب واحتياجات أسواقها المحلية، عبر قيادة عمليات الانتاج والتوزيع في مختلف الدول العربية وتعزيز قدرات التكامل سنصل إلى جيلين يمكنهما العمل باتجاه الاستدامة